ME...

ME...
MUSCAT-OMAN 2005

Rabu, 10 Desember 2008

IJTIHAD, TAQLID, TALFIQ DAN IFTA`

الاجتهاد

تعريف الاجتهاد
الاحتهاد لغة تحمل الجهد (بفتح الجيم المعجمة) يعني المشقة، وقيل استغراق الجهد (بالضم) وهو الطاقة. ولا يستعمل كلمة الاجتهاد إلا فيما فيه كلفة وجهد، لذا نقول اجتهد في حمل الأحجار ولا نقول اجتهد في حمل خردلة.
وهو في اصطلاح الأصوليين استغراق الجهد لتحصيل حكم شرعي فرعي عن دليله. قيد الحكم في هذا التعريف بالشرعي لإخراج الحكم العقلي والحسي، وقيد بالفرعي لإخراج الأحكام الأصلية إذ إنها قطعيات وليس للمجتهد فيها مجال.
فالاجتهاد مشروع ومطلوب في كل عصر ومكان، وذلك لأن الوحي المتلو لن ينزل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالاجتهاد هو الذي جعل الشريعة صالحة في كل زمان ومكان. فلا يخلو عصر من العصور من المجتهدين.

حكم الاجتهاد
تلحق الاجتهاد أحكام أربعة:
الأول الوجوب العيني على مسؤول عن حادثة وقعت وخاف فوتها وكذلك من يعرف الحادثة وليس هناك من يعرف حكمها غيره. ثم إن كانت الحادثة قد حصلت له شخضيا وأراد معرفة حكمها فالاجتهاد في حقه أيضا واجب فالمجتهد لا يقلد غيره في حق نفسه.
الثاني الوجوب الكفائي على مسؤول لم يخف فوت الحادثة وهناك غيره من المجتهدين. فإذا تركوه أثموا كلهم، وإن أفتى بعضهم سقط الطلب عن جميعهم
الثالث الندب وذلك في الاجتهاد في حكم حادثة لم تحصل سواء سئل عنها أم لم يسأل
الرابع الحرمة لمن ليس له علم ولم يتوفر فيه شروط الاجتهاد مع وجود من توفرت فيه شروط الاجتهاد. فالجاهل حين سئل أفتى من غير علم فضل وأضل.
فالاجتهاد ليس حقا مشاعا لجميع الناس كما يزعمه بعض الناس، فيتجرأ عليه كل إنسان. وإنما هو اختصاص دقيق جدا لا يتهيأ إلا لفئة قليلة من العلماء البارعين الذين استكملوا أوصافا معينا تؤهلهم لاستنباط الحكم الشرعي من دليله. قال الله تعالى "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" (سورة التوبة الأية 122).

شروط المجتهد
والاجتهاد واجب لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد وذلك لأن الاجتهاد من الدين حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" (رواه أبو داود والترمذي من حديث منقطع صحيح محتف بالقرائن)
واشترط للمجتهد المطلق وهو المستقل بالمذهب كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل شروطا كالآتية:
أولا أن يكون عالما باللغة العربية والمعاني اللغوية إفرادا وتركيبا، ويعلم قواعد الصرف والنحو والبلاغة على وجه يتيسر به فهم خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال. فيعلم المجتهد صريح الكلام وحقيقته ومجازه .
وإنما كان تعلم اللغة العربية على هذا الوجه ضروريا للمجتهد لأن النصوص الشريعة وردت بلسان العرب فلا يمكن فهمها واستفادة الأحكام منها إلا بمعرفة اللسان العربي والإحاطة بأساليبها وأسرارها البلاغية والبيانية.
ثانيا أن يكون عالما بالكتاب وهو أصل الأصول ومرجع كل دليل. والمجتهد يميز بين ناسخ الأية ومنسوخها وعامها وخاصها ومحكمها ومتشابهها ومطلقها ومقيدها ومنطوقها ومفهومها وما إلى ذلك.
ولا يشترط حفظ القرآن عن ظهر قلب بل أن يكون عالما بمواضع الآيات بحيث يمكنه أن يرجع إلى الأية المطلوبة بسهولة عند الحاجة
ثالثا أن يحيط بالسنة سندا ومتنا وأسباب ورود الحديث ومعرفة أحوال الرواة والجرح والتعديل وعلل الحديث وأقوال العلماء في حكم الحديث وشرحهم. وقيل يكفي ذلك الاعتماد على ما قرره أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل لتعذر الاطلاع على على حقيقة أحوال الرواة على من لم يمارس السند ونقده.
وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين إنه يكفي أن يكون عند المجتهد علم بمواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة.
رابعا أن يعلم موارد الإجماع المنعقد قبله لئلا يجتهد بما يخالف. ولا يلزم إحاطته بعلم الفقه لأنه نتيجة الاجتهاد فلا يتقدمه إلا إذا أراد المقارنة بين اجتهاده واجتهاد غيره من الفقهاء.
خامسا أن يعلم وجوه القياس بشرائطها وأقسامها وأحكامها والمقبول منها أو المردود.
سادسا أن يكون عدلا لجواز الاعتماد على اجتهاده. ومن هذا القبيل حسن النية وسلامة الاعتقاد، فإن النية المخلصة تجعل القلب يستنير بنور الله تعالى فينفذ إلى لب هذا الدين الحكيم ويتجه إلى الحقيقة الدينية التي لا يبغي سواها ولا يقصد غيرها، وأن الله يلقي في قلب المؤمن المخلص بالحكمة.
وأما فاسد الاعتقاد بأن يكون ذا بدعة أو ذا هوى أو لا يتجه إلى النصوص بقلب سليم فإنه قد يسيطر على تفكيره ما يمنعه من الاستنباط الصحيح مهما تكن قوة تفكيره. لأن النية المعوجة تجعل الفكر معوجا. ونحن نجد الأئمة الأعلام كانوا ممن اشتهروا بالورع قبل أن يشتهروا بالفقه.
فإذا فقد شخص واحدا من هذه الشروط الخمسة فلا يتحقق الاجتهاد ولا يطلق عليه اسم المجتهد بل حرم عليه الاجتهاد. وإطلاق كلمة المجتهد في زماننا على من مارس فروع الفقه إنما هو إطلاق مجازي لا حقيقي.

مراتب الاجتهاد
قسم العلماء إلى مراتب ستة، أربعة منها يعدون مجتهدين والباقيتان مقلدين. وإدخال المرتبتين الأخيرتين في باب الاجتهاد لأجل التقسيمات فقط. وإليك بيان هذه التقسيمات:
المرتبة الأولى يسمى أصحابها المجتهدين المستقلين في الاجتهاد، ويشترط فيهم الشروط التي ذكرناها كلها. فليس أحد فيهم تابعا لأحد بل يرسمون المناهج لأنفسهم ويفرعون عليها الفروع التي يرونها. ومن هؤلاء فقهاء الصحابة كلهم وفقهاء التابعين أمثال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي، والفقهاء المجتهدون مثل جعفر الصادق وأبوه محمد الباقر وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري وغيرهم كثيرين، وإن لم تصل إلينا مذاهبهم مجمعة مدونة مبوبة ولكن في ثنايا الكتب نجد آراءهم منقولة برواية لا دليل على كذبها.
وهناك تساؤل يتثور وهو هل يجوز هذا النوع من الاجتهاد في عصرنا الحاضر؟ فجوز بعضهم ومنع الآخرون.
والمرتبة الثانية المجتهدون المنتسبون الذين اختاروا أقوال الإمام في الأصل وخالفوه في الفرع وإن انتهوا إلى نتائج مشابهة في الجملة لما وصل إليه الإمام. ومن هؤلاء أبو يوسف في مذهب أبي حنيفة على خلاف من اعتبره مجتهدا مستقلا وتلميذه محمد بن الحسن وزفر، وفي المذهب الشافعي المزني، وفي المذهب المالكي عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب.
قال النووي "ادعى الأستاذ أبو إسحاق (الاسفرايني) هذه الصفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالك رحمه الله وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم. والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا لهم، بل إنهم لما وجدوا طريقته في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي. وذكر أبو علي السنجي (بكسر السين المهملة) نحو هذا فقال اتبعنا الشافعي دون غيره لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنا قلدناه. قلت: الذي ذكره موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره".
المرتبة الثالثة المجتهدون في المذهب الذين يتبعون الإمام في الأصول والفروع التي انتهى إليها. وإنما عملهم في استنباط أحكام المسائل التي لا رواية فيها عن الإمام. فلا يخلو عصر من العصور من هذا النوع من المجتهدين. وهم الذين قالوا إن عملهم في الاجتهاد هو تحقيق المناط أي تطبيق العلل الفقهية التي استخرجها سابقوهم فيما لم يعرض له السابقون من مسائل، وليس لهم أن يجتهدوا في مسائل قد نص عليها في المذهب إلا في دائرة معينة وهي التي يكون استنباط السابقين فيها مبنيا على اعتبارات لا وجود لها في عرف المتأخرين بحيث لو رأى السابقون ما يرى الحاضرون لأعرضوا عما قالوا.
المرتبة الرابعة المجتهدون المرجحون وهؤلاء لا يستنبطون أحكام فروع لا يجتهد فيها السابقون ولم يعرفوا حكمها كما أنهم لا يستنبطون أحكام مسائل لا يعرف حكمها، ولكن يرجحون بين الآراء المروية بوسائل الترحيج التي ضبطتها لهم المرتبة أعلاهم. فلهم أن يقرروا ترجيح بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو الصلاحية للتطبيق بموافقة أحوال العصر ونحو ذلك مما لا يعد استنباطا جديدا مستقلا أو تابعا. وقد عد بعض العلماء المجتهدون في المذهب والمجتهدون المرجحون في نفس المرتبة، إذ أن الفرق بين هذه المرتبة والتي قبلها دقيق جدا.
فأهل هذه المرتبة يوازنون بين الأقوال والروايات فيقررون مثلا أن هذا القول أقيس من هذا وأن ذلك القول أصح رواية أو أقوى دليلا.
ولأهل هذه المراتب الأربعة ضرب من الاجتهاد، فالمرتبة الأولى لها الاجتهاد الكامل الموفور، والثانية لها اجتهاد في الفروع مطلقا وليس لها اجتهاد في الأصول في الجملة، والثالثة والرابعة لها اجتهاد في استخراج العلل ومناط الأحكام وتحقيق ذلك المناط في المسائل التي يتحقق فيها. والمرتبة الأخيرة اجتهادها محدود في تخيير الأقوال والروايات وهي في الحقيقة مقلدة بيد أن لها تفسيرا في المذهب ونشاطا عقليا فيه من غير أن تتجاوز إطاره أو تترك دائرته. ويمكننا أن نقول لها نوع اجتهاد بالترجيح الذي تتولاه.
وأما المرتبتين الخامسة والسادسة فهما مقلدتان ليس فيهما اجتهاد فقهي إلا الجمع والتدوين.
فالمرتبة الخامسة يسمونها محافظين التي تكون حجة في العلم بترجيحات السابقين ويقول فيهم ابن عابدين في المذهب الحنفي "إنهم القادرون على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة كأصحاب المتون المعتبرة كصاحب الكنز وصاحب الدر المختار وصاحب الوقاية وثاحب المجمع وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
فعلمهم إذا ليس الترجيح ولكن معرفة ما رجح وترتيب درجة الترجيح على حسب ما قام به المرجحون. وقد يؤدي تعرف ترجيح المرجحين إل الحكم بينهم. وقد يرجح بعضهم رأيا لا يرجحه الآخر فيختار هو من أقوال المرجحين أقواها ترجيحا وأكثرها اعتمادا على أصول المذهب.
والمرتبة السادسة المقلدون وهي دون المراتب السابقة جميعا، وأهل هذه المرتبة الذين يستطيعون فهم الكتب ولا يستطيعون الترجيح بين الأقوال والروايات ولم يؤتوا علما بترجيح المرجحين وتمييز طبقات الترجيح، وقد وصفهم ابن عابدين بقوله لا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال من اليمين بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل، فلا يجوز تقليدهم مطلقا.
وقد وجد في عصرنا قوم من هذا الصنف لا يتجهون إلا إلى الالتقاط من أقوال الفقهاء من غير تعرف لدليل ما يلتقطون بل يكتفون بأن يقولوا هناك قول بهذا. وقد كان عمل هذا الفريق له أثر في البيئات، فيسارع هؤلاء إلى قول يجدونه أيا كان قائله وأيا كانت قيمته ولو لم يعتمد على دليل واضح أو تفكير راجح، ثم ينثرون ذلك نثرا فضلوا وأضلوا.

ثمرة الاجتهاد
وأثر الاجتهاد الظن بالحكم على احتمال الخطأ في ذلك الحكم فلا يجري الاجتهاد في القطعيات أصولا وفروعا لأن الخطأ فيها غير محتمل لكونها موارد نصوص ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
فالمجتهد قد يخطئ ولا يؤاخذ على خطئه بل يكون مأجورا لأنه استفرغ جهده في استنباط الحكم فلم يهتد إلى الحق لخطأ الدليل فأخطأ في اجتهاده. قال صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر(متفق عليه عن عمرو بن العاص، وفي الباب عن عقبة بن عامر وأبي هريرة)

الاجتهاد لا يتجزأ
اختلف الأصوليون في اجتهاد من حصلت له ملكة في مسألة هل يجوز أن يطلق عليه مجتهد أم لا بد له من أن يكون قادرا على الاجتهاد في جميع المسائل؟
قال بعضهم يجوز ومنع الآخر وهذا هو القول المعول عليه إذ لا يتصور أن يكون العالم مجتهدا في أحكام العبادات وغير مجتهد في أحكام المعاملات.

تغيير الاجتهاد
يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده. فإذا نقل عن مجتهد قولان يحمل على أنه رجع عن قوله الأول فيؤخذ بالثاني.

الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
إذا حكم المجتهد في مسألة ثم غير اجتهاده فاجتهد اجتهادا مخالفا للأول فلا يجوز له نقض اجتهاده السابق. أما إذا عرضت عليه بعد ذلك مسألة تشبه الأولى فله أن يحكم بموجب اجتهاد الثاني. ولذلك لا يجوز نقض الاجتهاد في المسائل الاجتهادية باجتهاد مجتهدين آخرين إلا إذا كان اجتهاده مخالفا للأحكام القطعية فينقض. ونقل السيوطي إجماع الصحابة في هذا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي". فحكم أبو بكر في مسائل خالفه عمر فيها ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في المشتركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة.
فمن اجتهد في القبلة بأن يوجه إلى ناحية ثم تغير ظنه فأعاد الاجتهاد بأن يوجه إلى ناحية أخرى فلا ينقض ما فعله بالأول ولو في صلاة واحدة، بل ولو صلى أربع ركعات لأربع جهات فلا قضاء عليه.
ولو صح نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولا تستتقر ولم يوثق بها إلا إذا بدا له أنه يخالف نصا أو دليلا قطعيا فوجب نقض الاجتهاد حينئذ. ونقل السيوطي أن ما يخالف المذاهب الأربعة كالمخالف للإجماع والإجماع دليل قطعي.
وإنما نقض حكم الحاكمين لتبين خطأه قد يكون ذلك الخطأ في نفس الحكم لكونه خالف نصا، وقد يكون في السبب كالحكم ببينة مزورة ثم تبين خلافه، وقد يكون في الطريق كما إذا حكم بينة ثم بان فسقها. وفي هذه الثلاثة ينقض الحكم. فلو لم ينتف الخطأ بل حصل مجرد التعارض كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي بني الحكم عليها فلا ينقض لعدم تبين الخطأ.
معنى "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" في الماضي ولكن يغير الحكم في المستقبل. واستثنى السيوطي صورا ذكره في الأشباه والنظائر كنقض الإمام لحمى من قبله لأن المصلحة قد تتغير. ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتابه.

هل المصيب من المجتهدين واحد أم أكثر
المصيب من المجتهدين في الفروع واحد. فإذا حدثت حادثة في الفروع ولم يوجد دليل قاطع في حكمها من نص أو إجماع فإنا نعلم أن لله تعالى فيها حكما شرعيا معينا، فيطلب المجتهدون ذلك الحكم بشتى أنواع الاجتهاد. فمن أدركه كان مصيبا ومن لم يدرك كان مخطئا لا اثم عليه بل أجر أجرا واحدا.
ففي عصر الصحابة رضي الله عنهم انتشرت وقائع ومسائل وخطّأ بعضهم بعضا فيها وصرحوا بلفظ الخطأ والإنكار كقول ابن عباس إلى زيد ابن ثابت في مسألة الجد والإخوة "الا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا". فلو كان كل مجتهد مصيبا لما خطأ بعضهم بعضا بل يقول بعضهم أنا مصيب وأنت مصيب. فالله تعالى بين أن سليمان مصيب في مسألة غنم القوم "ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما".
فعلى ذلك قالوا إن من صلى خلف من توضأ وهو تارك للنية أو الترتيب أو شيء مما اختلف فيه فإنه تجب الإعادة على من يرى وجوب النية أو الترتيب في الوضوء.

تقليد المجتهد
إذا اجتهد مجتهد في مسألة بصورة من الصور فلا يجوز له أن يحكم على خلاف اجتهاده تقليدا لمجتهد آخر يخالفه في الاجتهاد في تلك المسألة لأنه معتقد بصحة اجتهاده فحكمه بما يخالف اجتهاده باطل.
أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر والوقت متسع فلا يخاف فوت الحادثة وهو قادر على الاستنباط فهل يجوز له أن يقلد غيره؟ فالصحيح أنه لا يجوز لأن ذلك تقليد لمن لم تثبت عصمته عن الخطأ وليس هو عاميا فيقلد الآخر. فتقليد المجتهد على اجتهاد مجتهد آخر تضييع لنعمة العقل الذي كرم الله به الإنسان ونعمة توفر شروط الاجتهاد الذي فضله الله على الآخرين. قال الله تعالى "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (سورة الحشر الاية 2) وقال "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (سورة محمد الأية 24) وقال "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" (سورة النساء الأية 83)

لا اجتهاد في مورد النص
إذا دل النص على حكم في حادثة من الحوادث فلا يجوز للمجتهد أن يجتهد فيها، لأن النص متى كان قطعي الورود لا يسوغ أن يكون ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث واجتهاد. وما دام قطعي الدلالة فلا يجوز أن تكون دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث وبذل جهد. فكل نص لا يحتمل التأويل يجب أن ينفذ كما ورد ولا مجال للاجتهاد فيه. قال الله تعالى "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (سورة النساء الأية 59) ، وقال "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" (سورة الشورة الأية 10).
أما إذا كان النص ظني الورود والدلالة أو ظني أحدهما فللاجتهاد فيه مجال لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده وأحوال رواته. وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل، لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى ولكنه ليس هو المراد قد يكون عاما أو مطلقا وقد يكون مقيدا. فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو أنه مؤول، وأن العام باق على عمومه أو مخصص، وأن المطلق على إطلاقه أو مقيد مسترشدا في ذلك كله بالقواعد الأصولية اللغوية ومقصد الشارع وما وضع له من مبادئ عامة.
أما إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها فالمجال واسع للمجتهد بأن يجتهد فيها برأيه بعد البحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو العرف أو المصالح المرسلة.
فمثال ما لا مجال للاجتهاد فيه النطق بالشهادتين ووجوب الصلوات المكتوبة الخمس وتحريم الزنا وكفارة الظهار.

فخلاصة البحث أن الاجتهاد لا يكون إلا في حالتين أحدهما عند عدم وجود النص أصلا والآخر عند وجود نص ظني وغير قطعي.


التقليد
مر بنا الكلام في الاجتهاد وشروط صحته وحكمه على من تأهل الاجتهاد ومن ليس له نصيب فيه. فالاجتهاد بابه مفتوح ولا يجوز لأحد أن يغلق بابا فتحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فللمجتهد أن يجتهد ويعمل بمقتضى اجتهاده، وعلى العوام تقليد المجتهد ولا يجتهد فضل وأضل. وفي مثل هذا أخرج أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه "قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده". فعتب الرسول بعض أصحابه الذين اجتهدوا من غير علم.
والتقليد قبول اجتهاد الغير أوفتواه من غير أن يعرف دليله. فمن حرم عليه الاجتهاد فالتقليد في حقه واجب ولا عيب عليه في ذلك، قال الله تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (سورة الأنبياء الأية 7).

هل على العوام التزام مذهب معين؟
والأصل عدم وجوب التزام بمذهب معين بل يجوز لكل مسلم أن يستفتي في كل واقعة عند أي مفت اختاره ويعمل بفتواه كما كان في القرون الفاضلة من الصحابة والتابعين. قال النووي إنه لا يلزم التمذهب بمذهب معين بل يستفتي من شاء وذلك من غير تلقط الرخص، انتهى باختصار.
ومذاهب السلف الماضين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رضوان الله عليهم كثيرة لا تكاد تنحصرعددا، وكلها اجتهادات استوفت الشروط. قال المناوي في شرح الجامع ويجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين يعني سفيان الثوري والسفيان بن عيينة والأوزاعي وداود الظاهري وإسحاق بن راهويه وسائر الأئمة على هدى ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه. وبه قال جلال الدين المحلي.
وتقليد مذهب من مذاهبهم الآن غير المذاهب الأربعة فليس بجواز لا لنقصان مذاهبهم ورجحان المذاهب الأربعة عليهم بل لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها وعدم وصولها إلينا بطريق التواتر حتى لو وصل إلينا شيء من ذلك فيجوز لنا تقليده لكنه لم يصل.
فالمذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة دون غيرها كمذهب أبي ثور والمزني، فقد انحصر الآن العمل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة. وذلك في المسائل الاجتهادية لا غير كما مر. فأما ما علم من الدين بالضرورة كفرضية الصيام وحرمة الزنا وشريعة الجهاد فلا يحتاج إلى التقليد فيه لأحد الأربعة ولا حق اجتهاد في ذلك عندهم.
وأكد المناوي إلى عدم جواز تقليد الصحابة وكذا تقليد التابعين كما قاله إمام الحرمين من كل من لم يدون مذهبه فيمتنع تقليد غير المذاهب الأربعة في القضاء والإفتاء لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت بخلاف غيرهم لانقراض اتباعهم. وقد نقل الرازي إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة. وصرح ابن نجيم الحنفي في التحرير لابن الهمام على أن الاجماع انعقد عل عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة.
نعم يجوز لغير عامي من الفقهاء تقليد غير الأربعة في العمل لنفسه إن علم نسبته لمن يجوز تقليده وجميع شروط الاجتهاد عنده لكن بشرط أن لا يتبع الرخص بان يأخذ من كل مذهب الأهون فتنحل ربقة التكليف من عنقه.
ومن تمذهب بمذهب معين فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل من مذهب آخر لأنه بالتزامه يصير ملزوما به ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الصواب فعليه الوفاء بموجب اعتقاده. وقيل لا يلزمه وهو الأصح كما ذهب إليه الرافعي وغيره بأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يمتذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه في كل ما يأتي ويذر غيره، ولا قال أحد من المجتهدين إن من تبعني فلا يتبع أحدا غيري. ففي الحديث الذي أخرجه البيهقي في المدخل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مهما أو تيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة". وفي سنده سليمان بن أبي كريمة وجويبر وهما ضعيفان.
قال هارون الرشيد لمالك بن أنس يا أبا عبد الله تكتب هذه الكتب وتفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة، فقال يا امير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد الله. وقال السيوطي واعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة وفضيلة جزيلة عظيمة وله سر لطيف أدركه العالمون وعمى عنه الجاهلون حتى سمعت بعض الجهال يقول النبي صلى الله عليه وسلم جاء بشرع واحد فمن أين مذاهب أربعة؟! ومن العجب أيضا من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب تفضيلا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء وصارت عصبية وحمية والعلماء منزهون عن ذلك. وقد وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم خير الأمة فما خاصم أحد منهم أحدا ولا عادى أحد أحدا.
فالاختلاف في حقنا يعني الأمة المحمدية رحمة وخصيصة فاضلة وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة وهو في حق الأمم السابقة هلاك وعذاب. فكانت الأنبياء يبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخييرفي كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا. فمن ذلك جريمة القتل التي شرع لنا القصاص والدية فكأنه جمع بين الشرعين معا وزادت حسنا بشرع ثالث وهو التخيير.
والاختلاف في الفروع عند المذاهب كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها.

هل يجوز التقليد بعد الفعل؟
قال بعضهم بأن التقليد بعد الفعل جائز كما إذا صلى ظنا صحتها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره فله تقليده ويجتزي بتلك الصلاة. فروي عن أبي يوسف انه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام بالناس وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا. ووجد الإشكال في أن المجتهد بعد اجتهاده في حكم ممنوع من تقليد غيره من المجتهدين. وهذا لا يرد على القول بجواز التقليد بعد الفعل لأن الإيراد على المجتهد لا المقلد. وعن مسألة أبي يوسف يمكن أن نقول أنه اجتهد في دليل مذهب غير مذهبه ثم أخذ به. والمجتهد المقيد في المذهب له أن يجتهد في أصول غير إمامه لأنه في معنى المقلد.

هل يجوز الانتقال من تقليد مجتهد إلى آخر للأرجحية؟
قال محمد البغدادي واختلفوا في أنه هل يجوز للمقلد تقليد المفضول مع وجود الأفضل؟ فجوزه الأئمة الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية ومنعه أحمد وطائفة من الفقهاء. ونقل عن الغزالي أنه قال إذا اعتقد المقلد أحد المجتهدين بالفضل لا يجوز له أن يقلد غيره وإن كان لا يلزم البحث عن الأعلم إذا لم يعلم اختصاص أحدهم بزيادة الفضل والعلم. أما إذا علم واعتقد زيادة الفضل في أحدهم يلزم تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين، وإن تعارضا في العلم والورع قدم الأعلم على الأصح.
قال المحلي في شرح جمع الجوامع تقليد المفضول من المجتهدين فيه أقوال أحدها ورجحه ابن الحاجب يجوز لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم من غير إنكار. ثانيها لا يجوز لأن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهد، فكما يجب الأخذ بالراجح من الأدلة يجب الأخذ بالراجح من الأقوال والراجح منها قول الفاضل ويعرفه العامي بالتسامع وغيره. وثالثها المختار يجوز لمعتقده فاضلا عنده أو مساويا له بخلاف من اعتقده مفضولا ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح من المجتهدين لعدم تعينه فإن اعتقد العامي رجحان واحد منهم تعين لأن يقلده وإن كان مرجوحا في الواقع عملا ياعتقاده المبني عنه والراجح علما فوق الراجح ورعا في الأصح لأن لزيادة العلم تأثيرا في الاجتهاد بخلاف زيادة الورع، وقيل العكس لأن لزيادة الورع تأثيرا في التثبت في الاجتهاد وغيره بخلاف زيادة العلم ويحتمل التساوي لأن لكل مرجحا. قال بعضهم إذا ظن المقلد رجحان وذهب الغير فيحسن له اتباع الراجح.
ونقل عن السبكي أن المنتقل من مذهب لآخر له أحوال منها أن يعتقد رجحان مذهب الغير فيجوز عمله بالراجح في ظنه، ومنها أن لا يعتقد رجحان شيء فيجوز.
قال بعضهم إذا سئلنا عن مذهبنا في الفروع (الفقه) ومذهب مخالفينا فنجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب لأنك لو قطعت القول لما صح قولنا إن المجتهد يصيب ويخطئ. أما إذا سئلنا عن معتقدنا ومعتقد خصومنا في العقائد فيجب علينا أن نقول الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا.

التلفيق
التلفيق هو أن يأخذ أحد أقوالا من كل مذهب في مسألة واحدة يجتمع على إبطاله كل من تلك المذاهب.
ومن المعلوم أن الناس ينقسم إلى إلى مجتهدين وغير مجتهدين. والاجتهاد إما أن يكون مطلقا وإما أن يكون مقيدا. فأهل الاجتهاد المطلق لا يجوز لهم تقليد غيرهم لأن الواجب لهم العمل باجتهادهم. وأهل الاجتهاد المقيد كأبي يوسف في المذهب الحنفي والنووي في الشافعي يجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط دون الفروع.
وأما غير المجتهدين وهم عامة الناس فلا يجب عليهم التزام العمل بمذهب معين على القول المختار، بل يجوز لكل واحد منهم أن يأخذ أي مذهب شاء وذلك بعد استيفاء جميع الشروط التي يشترطها ذلك المذهب وإلا كان عمله باطلا بالاجماع. ومن أخذ من كل مذهب قولا لا يقول به صاحب المذهب الآخر فقد خرج عن المذاهب الأربعة واخترع له مذهبا خامسا فعبادته باطلة ومعاملته غير صحيحة وهو يعتبر متلاعبا في الدين وغير عامل بمذهب من مذاهب المجتهدين لأنه لو سئل كل مفت من أهل المذاهب الأربعة فلا يسوغ له أن يفتي بصحة تلك العبادة أو المعاملة لفقد شروط صحتها عنده.
وأي مفت حنفي يفتي بصحة الوضوء من ماء مقدار القلتين وقعت فيه نجاسة ولم يتغير بها أحد أوصافه وأي مفت شافعي يفتي بصحة الوضوء من غير نية ولا ترتيب وأي مفت مالكي بصحة الوضوء من غير دلك ولا موالاة وأي حنبلي يفتي بصحة والوضوء من غير تسمية. فلو توضأ رجل من ماء القلتين المذكور من غير نية ولا ترتيب ولا دلك ولا موالاة ولا تسمية فهذا الوضوء باطل إجماعا من غير خلاف، فلو حكم ذلك الرجل بصحته وهو مقلد لكان مخترعا مذهبا خامسا وذلك باطل.
وعن الإسنوي من الشافعية أنه قال إذا نكح رجل بلا ولي تقليدا لأبي حنيفة أو بلا شهود تقليدا لمالك ووطئ لا يحد. ولو نكح بلا ولي ولا شهود أيضا تقليدا لهما حد كما قاله الرافعي لأن الإمامين أبا حنيفة ومالكا قد اتفقا على البطلان.
قال أحمد الرملي وإذا دونت المذاهب وانتقل المقلد من مذهب إلى مذهب جاز، ولو قلد مجتهدا في مسائل أخرى جاز، لكن لا يتبع الرخص وإذا استفتى فافتاه مفت لزمه الأخذ بقوله إن لم يكن هناك مفت آخر وإلا فلا إذ له سؤال غيره. وشرط تقليد مذهب الغير أن لا يكون موقعا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إلى مذهبه. فمن قلد مالكا مثلا في عدم النقض باللمس الخالي عن الشهوة فلا بد أن يدلك بدنه ويمسح جميع رأسه.
قال عبدالرحمن العمادي يجوز للحنفي تقليد غير إمامه من الأئمة الثلاثة فيما تدعو إليه الضرورة بشرط أن يلتزم جميع ما يوجبه ذلك الإمام في ذلك.
فجدير بالذكر على ما قلنا من قبل إنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين وإنه يجوز له العمل بما يخالف ما علمه على مذهبه مقلدا فيه غير إمامه مستعجما شروطه ويعمل بأمرين متضادين في حادثين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر لأن إمضاء الفعل كإمضاء قضاء القاضي لا ينقض.
قال بعضهم لا يصح التقليد في شيء مركب من اجتهادين مختلفين بالإجماع والحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين. ونقل عن السبكي أنه قال إن التقليد إن اجتمعت فيه حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع يمتنع.
فمن انتقل من مذهبه إلى مذهب آخر ليتبع الرخص ويلتقطها خيف عليه بالوعد الذي جاء في قوله تعالى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون" (سورة الجاثية الأية 23).
فالتلفيق ممنوع وعلى هذا رد قول محمد بن فرخ المكي من صحة التلفيق رأيا منه وقد استدل عليه بعبارة وقعت في التحرير لابن الهمام ليس معناها ذلك فقال قد أشار إلى عدم منعه المحقق في التحرير وأنه لا يدر ما يمنع منه مع أن عبارة ابن الهمام ليس فيها ذلك. نعم قد ثبت في الحديث المتفق عليه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه". فليس معنى هذا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه فإن الإشارة من الحديث تمام الحكم لا بعضه وذلك في مقابلة التزام مذهب معين.

الإفتاء

الإفتاء أخص من الاجتهاد لأن الاجتهاد استنباط الأحكام سواء أكان سؤال في موضعها أم لم يكن وذلك بخلاف الإفتاء فإنه لا يكون إلا إذا كانت واقعة وقعت.
والفتوى السليمة التي تكون من مجتهد تقتضي مع شروط الاجتهاد التي ذكرناها شروطا أخرى، وهي معرفة واقعة الاستفتاء والمستفتي والجماعة التي يعيش فيها ليعرف مدى أثر الفتوى سلبا وإيجابا حتى لا يُتخذ دين الله لعبا ولهوا. وقد شدد العلماء شروط المفتي لأنه هاد ومرشد وأن فتواه مدار لإصلاح الناس.
فللمفتي الخيار من المذاهب في فتواه ويراعي في ذلك الحق وصلاح الناس لا لإرضاء حاكم أو لهوى الناس.
وقد حكى الشاطبي في الموافقات قصة فقيه كان يفتي بالأندلس ثم حجر عليه بالفتوى لأشياء نقمت عليه واستمر محجورا عليه إلى أن حدثت حادثة أفتى فيها فتوى لحاكم خلاصتها أنه كان بجوار قصر الناصر أمير الأندلس وقف يتأذى بمنظره إذ كان مقابلا للمنتزه الذي يتنزه به، وكان فوق ذلك يؤذيه منطره إذا نظر من أعلى قصره. فرأى أن يعوض الوقف ويضمه إلى المنتزه. فأرسل إلى بقي بن مخلد كبير العلماء وكبير المفتين، فجمع العلماء ليجمعوا على رأي فأجمعوا على منع بيع الوقف كما هو مذهب مالك، ويظهر لهم طووا في نفوسهم أمرا آخر وهو أن يفطموا نفس الأمير عن شهوته فلا يساوره فيها. فلما أعلنوا فتواهم تبرم الأمير بها وإن كان قد أطاعها. وعلم الفقيه المحجور عليه، فأرسل إلى الأمير يبيح ما أراد أخذا من مذهب أبي حنيفة الذي يقرر أن الأوقاف غير لازمة وأنها تورث وتصبح غير موقوفة بعد وفاة الواقف. فجمع الأمير ذلك الفقيه بالعلماء وعقدت الشورى بينهم فأصر الفقهاء على رأيهم فقال الفقيه الذي كان محجورا عليه للعلماء ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم؟ قالوا بلى. قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة. فسكتوا فأرسل القاضي إلى الأمير بصورة ما جرى في المجلس فأخذ بفتيا ذلك الفقيه وعوض الوقف بأضعاف كثيرة عن قيمة الوقف.
ويجب على من يتخير من المذاهب أن يلاحظ الأمور الثلاثة، وهي:
أولها، أن يتبع القول لديه، بأن لا يختار من المذاهب أضعفها دليلا بل يختار أقواها دليلا، ولا يتبع شواذ الفتيا. وأن يكون عالما بمناهج المذهب الذي يختار منه. فإن لم يكن عنده المقدرة هذه، فأولى ثم أولى أن يقتصر على مذهبه الذي يعلمه أو كان قد بلغ درجة الإفتاء فيه.
ثانيها أن يجتهد ما أمكن الاجتهاد في ألا يترك المجمع عليه إلى المختلف فيه. فمثلا إذا سئل المفتي الذي أحيط خبرا بالمذاهب الإسلامية عن تولى المرأة عقد زوجها بنفسها لا يفتي بقول أبي حنيفة الذي انفرد به من بين الجمهور، بل يفتي بقول الجمهور، ولا مانع من أن يبين له قول أبي حنيفة ويترك له مع بيان وجه اختياره رأي الجمهور. فيذكر مثلا أنها مسألة دقيقة في الحلال والحرام وأن الأخذ بالاحتياط فيها واجب.
وإذا كانت المسألة خلافية احتاط للشرع، واحتاط للمستفتي من غير خروج ولا شذوذ. فمثلا إذا سأله رجل يريد زواج امرأة قد رضعت من أمه رضعة واحدة، أفتاه بمذهب أبي حنيفة ومالك اللذين يعتبران قليل الرضاع محرما ولو كان مصة أو مصتية. وإن كان السائل قد وقع في البلوى وتزوج امرأة كانت بينهما رضاعة ولم يصل إلى خمس رضعات ولم يعلم تلك الواقعة إلا بعد أن أعقب منها أولادا، فإن الاحتياط للأولاد يسوغ له الإفتاء بالحل، ولكن شرط ذلك كله أن تكون الأدلة قد تراجحت لديه، ولا يرى واحدا منها قاطعا في الموضوع.
ثالثها أن يتبع الدليل والمصلحة دون أهواء الناس. والمصلحة المعتبرة هي مصلحة الكافة وما يؤدي به إلى الفتيا من تحليل وتحريم. فهذا الفقيه الذي اختار رأي الحنفية الذي يجوز بيع الوقف مسايرة للأمير في شهوته واعتبر رؤية وقف غير حسن المنظر ملمة نزلت بالأمير يجب العمل على تفريج كربته فيها، كان الأولى به أن يشير عليه بإصلاح الوقف ليكون منظره جميلا بدل أن يساير رغبته إلى أقصى مداها.
وعلى المفتي أن بأخذ بما يفتي به. فإنه إذا كان يترخص لنفسه بأمور لا يبيحها للناس فإن ذلك يفقده العدالة، إلا إذا كان الترخيص لسبب شخصي حاجي لو توافر في غيره لأفتاه بمثل ما يرخص لنفسه.
فالمفتي يجلس مجلس الأنبياء حيث يبين للناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم. وهو وارثه في بيان شرع الله تعالى، فلا يجعل لهواه موضعا بل لزمه أن ينطق بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
فسبحان الله لا علم لنا إلا ما علمنا إنه هو العليم الحكيم فله الحمد رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، وصلى الله على نبينا محمد بأمته رؤوف رحيم.

المصادر
أسعد عبد الغني وأحمد مختار محمود، محاضرات في أصول الفقه (الفرقة الرابعة)، (القاهرة: كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين، 1422هـ)
شاكر بك الحنبلي، أصول الفقه الإسلامي، (مكة المكرمة: المكتبة المكية، 1423 هـ)، الطبعة الأولى
عبد الغني النابلسي، خلاصة التحقيق في بيان التقليد والتلفيق، (استنبول: مكتبة الحقيقة، 1991م)
عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقها على المذهب الراجح، (الرياض: مكتبة الرشد ناشرون، 2003م)، الطبعة السادسة
عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1407 هـ)، الطبعة الثانية
محمد أبو زهرة، أصول الفقه، (القاهرة: دار الفكر العربي)
وهبة الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، (دمشق: دار الفكر، 1418هـ)، الطبعة الثانية

Tidak ada komentar: